فَوَصَلْنَا الْحَبْلَ منها ما اتَّسَعْ
2 حُرَّةٌ تَجْلُو شَتِيتًا واضِحًا
كشُعَاعِ الشَّمْسِ في الْغَيْمِ سَطَعْ
3 صَقَلَتْهُ بِقَضِيبٍ نَاضِرٍ
مِنْ أراكٍ طَيّبٍ حَتَّى نَصَعْ
4 أبْيَضَ اللَّوْنِ لَذِيذًا طَعْمُهُ
طَيّبَ الرِيّقِ إذَا الرِيّقُ خَدَعْ
5 تَمْنَحُ المِرآةَ وَجْهًا واضِحًا
مِثْلَ قَرْنِ الشمَّسِ في الصَّحْوِ ارتْفَعْ
6 صَافِيَ اللَّوْنِ وطَرْفًا سَاجِيًا
أكْحَلَ العَيْنَيْنِ ما فيه قَمَعْ
7 وقُرُونًا سَابِغًا أطرْافُهَا
غَلَّلَتْها رِيحُ مِسْكٍ ذِي فَنَعْ
8 هَيَّجَ الشَّوْقَ خَيالٌ زائرٌ
مِن حَبِيبٍ خَفِرٍ فيهِ قَدَعْ
9 شَاحِطٍ جَازَ إلى أرْحُلِنَا
عُصَبَ الْغَابِ طُرُوقًا لم يُرَعْ
10آنِسٍ كان إذَا ما اعْتَادَني
حالَ دُنَ النَّومِ مِنّي فامْتَنَعْ
11وكذَاكَ الحُبٌ ما أشْجَعَهُ
يَرْكَبُ الْهَوْلَ وَيَعْصِي مَنْ وَزَعْ
12فأبِيتُ اللَّيلَ ما أرْقُدُهُ
وبِعَيْنَيَّ إذَا نَجُمٌ طَلَعْ
13وإذَا ما قُلْتُ لَيْلٌ قد مَضَى
عَطَفَ الأوَّلُ مِنهُ فَرَجَعْ
14 يَسْحَبُ اللَّيْلُ نُجُومًا ظُلَّعًا
فَتَواليهَا بَطيئاتُ التَّبَعْ
15 ويُزَجّيها على إبْطَائِها
مُغْرَبُ اللَّوْنِ إذَا اللَّوْنُ انْقَشَعْ
16 فَدَعَانِي حُبٌ سَلْمَى بَعْدَ مَا
ذَهَبَ الْجِدَّةُ مِنّي والرَّيَعْ
17 خَبَّلَتْنِي ثُمَّ لمَّا تُشْفِنِي
فَفُؤادِي كُلَّ أوْبٍ ما اجْتَمَعْ
18 ودَعَتْنِي بِرُقَاهَا إنَّها
تُنْزِلُ اْلأعْصَمَ مِن رَأسِ إليفَعْ
19 تُسْمِعُ الْحُدَّاثَ قَوْلاً حَسَنًا
لو أرادُوا غَيْرَهُ لم يُسْتَمَعْ
20 كَمْ قَطَعْنا دُونَ سَلْمَى مَهْمَهًا
نازحَ الْغَوْرِ إذَا الآلُ لَمَعْ
21 في حَرُورٍ يُنْضَجُ اللَّحْمُ بِها
يأْخُذُ السَّائِرَ فيها كالْصَّقَعْ
22 وتَخَطَّيْتُ إليها من عِدًي
بِزَماعِ الأمْرِ والهَمِّ الْكَنِعْ
23 وفَلاَةٍ واضِحٍ أقْرَابُهَا
بَالياتٍ مِثْلَ مُزفَتِّ الْقَزَعْ
24 يَسْبَحُ الآلُ على أعْلاَمِها
وعَلى الْبِيدِ إذَا إليوْمُ مَتَعْ
25 فَركِبْنَاها على مَجْهُولِها
بِصِلابِ الأرْضِ فيهِنَّ شَجَعْ
26 كالْمَغَالي عارِفَاتٍ لِلسٌرَى
مُسْنَفَاتٍ لَمْ تُوَشَّمْ بالنَّسَعْ
27 فَتَرَاها عُصُفًا مُنْعَلَةً
بِنِعَالِ الْقَيْنِ يَكْفِيها الْوَقَعْ
28 يَدَّرِعْنَ اللَّيْلَ يَهْوِينَ بِنَا
كَهُوِيّ الْكُدْرِ صَبَّحْنَ الشَّرَعْ
29 فَتَنَاوَلْنَ غِشاشًا مَنْهَلاً
ثُمَّ وَجَّهْنَ لأرْضٍ تُنْتَجَعْ
30 مِن بَنِي بَكْرٍ بِها مَمْلَكَةٌ
مَنْظَرٌ فِيهِمْ وفيهِمْ مُسْتَمَعْ
31 بُسُطُ الأيْدِي إذَا ما سُئِلُوا
نُفُعُ النَّائِلِ إنْ شَيءٌ نَفَعْ
32 مِنْ أُناسٍ لَيْسَ مِنْ أخْلاقِهِمْ
عَاجِلُ الْفُحْشِ ولا سُوءُ الْجَزَعْ
33 عُرُفٌ لِلْحَقِّ ما نَعْيَا بِهِ
عِنْدَ مُرّ الأمْرِ ما فِينَا خَرَعْ
34 وإذَا هَبَّتْ شَمالاً أطْعَمُوا
في قُدُورٍ مُشْبَعَاتٍ لم تُجَعْ
35 وَجِفانٍ كالجوابي مُلئَتْ
مِن سَمينَاتِ الذُّرَى فِيها تَرَعْ
36 لا يَخَافُ الْغَدْرَ مَن جَاوَرَهُمْ
أبداً منهُمْ ولا يَخْشَى الطَّبَعْ
37 ومَسَامِيحُ بما ضُنَّ بِهِ
حَاسِرُو الأنْفُسِ عن سُوءِ الطَّمَعْ
38 حَسَنُو اْلأوْجُهِ بِيضٌ سادَةٌ
ومَرَاجِيحُ إذَا جَدَّ الْفَزَعْ
39 وُزُنُ الأحْلاَم إنْ هُمْ واَزَنُوا
صَادِقُو الْبَأسِ إذَا الْبَأس نَصَعْ
40 ولُيُوثٌ تُتَّقَى عُرَّتُهَا
سَاكِنُو الرّيِحِ إذَا طَارَ الْقَزَعْ
41 فَبِهِمْ يُنُكَى عَدُوٌّ وبهِمْ
يُرْأبُ الشَّعْبُ إذَا الشَّعْبُ انْصَدَعْ
42 عَادَةٌ كانتْ لهم مَعْلُومَةٌ
فِي قَديِمِ الدَّهْرِ لَيْسَتْ بالْبِدَعْ
43 وإذَا ما حُمِّلُوا لَمْ يظْلَعُوا
وإذَا حَمَّلْتَ ذَا الشِّف ظَلَعْ
44 صَالِحُو أكْفَائِهِمْ خُلاَّنُهُمْ
وسَراةُ الأصلِ والنَّاسُ شِيَعْ
45 أرَّقَ الْعَيْنَ خَيَالٌ لَمْ يَدِعْ
مِن سُلَيْمَى فَفُؤادي مُنْتَزَعْ
46 حَلَّ أهْلِي حَيْثُ لا اطْلُبُها
جَانِبَ الْحِصْنِ وَحَلَّتْ بِالْفَرَعْ
47 لاَ أُلاَقِيها وقَلْبِي عِنْدَها
غَيْرَ إلْمَامٍ إذَا الطَّرْفُ هَجَعْ
48 كالتُّؤامِيَّةِ إنْ بَاشَرْتَها
قَرَّتِ الْعَيْنُ وطَابَ الْمُضْطَجَعْ
49 بَكَرَتْ مُزْمِعَةً نِيَّتَها
وَحَدَا الْحَادِي بِها ثُمَّ انْدَفَعْ
50 وكَرِيمٌ عِندَها مُكْتبَلٌ
غَلِقٌ إثْرَ الْقَطِينِ الْمُتَّبَع
51 فكأنِي إذْ جَرَى الآلُ ضُحىً
فَوْقَ ذَيَّالٍ بِخَدَيْهِ سَفَعْ
52 كُفَّ خَدَّاهُ على دِيبَاجَةٍ
وَعلى المَتْنَينِ لَوْنٌ قد سَطَعْ
53 يَبْسُطُ المَشْيَ إذَا هَيَجْتَهُ
مِثْلَ مايَبْسُطُ في الخَطْوِ الذَّرَعْ
54 رَاعَهُ مِن طَيّيٍء ذُو أسْهُمٍ
وضِرَاءٍ كُنَّ يُبْلِينَ الشِرَعْ
55 فَرآهُنَّ ولمَّا يَسْتَبِنْ
وكِلاَب الصَّيْدِ فيهنَّ جَشَعْ
56 ثُمَّ وَلي وجَنَابَانِ لَهُ
من غُبارٍ أكْدَرِيٍ واتَّدَعْ
57 فَتَرَاهُنَّ على مُهْلَتِهِ
يَخْتَلِينَ الأرْضَ والشَّاةُ يَلَعْ
58 دَانياتٍ ما تَلَبَّسْنَ بهِ
واثِقَاتٍ بِدِمَاءٍ إنْ رَجَعْ
59 يُرْهِبُ الشَّدَّ إذَا أرْهَقْنَهُ
وإذَا بَرَّزَ مِنْهنَّ رَبَعْ
60 سَاكِنُ الْقَفْرِ أخُو دَوّيَّةٍ
فإذَا ما آنَسَ الصَّوْتَ امَّصَعْ
61 كَتَبَ الرَّحمنُ،والحَمْدُ لَهُ،
سَعَةَ الأخلاَقِ فينَا والضَّلَعْ
62 وإبـاءً لِلدَّنِيَّــات إذَا
أُعْطِىَ الْمَكْثُورُ ضَيْمًا فكَنَعْ
63 وبِنـاءً لِلْمَعالي،إنَّمـا
يَرْفَعُ اللهُ ومَنْ شاءَ وَضَعْ
64 لا يُريِدُ الدَّهْرَ عنها حِوَلاً
جُرَعَ المَوْتِ ولِلْمَوتِ جُرَعْ
65 نِعَمٌ لِلّهِ فِينَا رَبَّهَا
وصَنِيعُ اللهِ ، واللهُ صَنَعْ
66 كَيْفَ باسْتِقْرارِ حُرٍ شَاحِطٍ
بِبلادٍ ليسَ فيها مُتَّسَعْ
67 رُب مَن أنْضَجْتُ غَيْظًا قَلْبَهُ
قد تَمَنَّى لِيَ شَرَّاً لم يُطَعْ
68 ويَراَنِي كالشَّجَا في حَلْقِهِ
عَسِرًا مَخْرَجُهُ ما يُنْتَزَعْ
69 مُزْبِدٌ يَخْطِرُ ما لم يَرَنِي
فإذَا أسْمَعْتُهُ صَوْتِي انْقَمَعْ
70 قَدْ كَفانِي اللهُ ما فِي نَفْسِهِ
ومتَى ما يَكْفِ شَيْئًا لا يُضَعْ
71 بِئْسَ ما يَجْمَعُ إنْ يَغْتَابَنِي
مَطْعَمٌ وَخْمٌ ودَاءٌ يُدَّرَعْ
72 لَمْ يَضِرْنِي غَيْرَ أنْ يَحْسُدَنِي
فَهْوَ يَزْقُو مِثْلَ ما يَزْقُو الضُّوَعْ
73 ويُحَيِيّنِي إذَا لاَقَيْتُهُ
وإذَا يَخْلُو لَهُ لَحْمِي رَتَعْ
74 مُسْتَسِرٌ الشَّنْءِ لَوْ يَفْقِدُنِي
لَبَدَا منهُ ذُبَابٌ فَنَبَعْ
75 ساءَ ما ظَنَّوا وقد أبْلَيَتُهُمْ
عند غاياتِ الْمَدَى كَيْفَ أقَعْ
76 صاحِبُ الْمِئْرَةِ لا يَسْأمُها
يُوقِدُ النَّارَ إذَا الشَّرٌ سَطَعْ
77 أصْقَعُ النَّاسِ بِرَجْمٍ صائبٍ
ليسَ بالطَّيْشِ ولا بالمُرْتَجَعْ
78 فارِغُ السَّوْطِ فما يَجْهَدُنِي
ثَلِبٌ عَوْدٌ ولا شَخْتٌ ضَرَعْ
79 كَيْفَ يَرْجُوَن سِقَاطِي بَعْدَ ما
لاحَ في الرَّأسِ بَيَاضٌ وصَلَعْ
80 وَرِثَ البِغْضَةَ عَنْ آبائِهِ
حَافِظُ الْعَقْلِ لِمَا كان اسْتَمَعْ
81 فَسَعَى مَسْعَاتَهُمْ في قَوْمِهِ
ثمَّ لم يَظْفَرْ ولاَ عَجْزًا وَدَعْ
82 زَرَعَ الداَّءَ ولم يُدْرِكْ بهِ
تِرَةً فَاتَتْ ولا وَهْيًا رَقَعْ
83 مُقْعِيًا يَرْدِي صَفَاةً لم تُرَمْ
في ذُرَى أعْيَطَ وَعْرِ المْطَّلَعْ
84 مَعْقِلٌ يَأمَنُ مَنْ كانَ بهِ
غَلَبَتْ مَنْ قَبْلَهُ أن تُقْتَلَعْ
85 غَلَبَتْ عاداً ومَنْ بَعْدَهُمُ
فأبَتْ بَعْدُ فَليْسَتْ تُتَّضَعْ
86 لا يَرَاها النَّاسُ إلاَّ فَوْقَهُمْ
فَهْي تَأتِي كَيْفَ شَاءَتْ وتَدَعْ
87 وَهْوَ يَرْمِيها ولَنْ يَبْلُغَهَا
رِعَةَ الجاهِلِ يَرْضَى ما صَنَعْ
88 كَمِهَتْ عَيْناهُ حتَّى ابْيَضَّتَا
فهُوَ يَلْحَى نفسَهُ لمَّا نَزَعْ
89 إذْ رَأى أنْ لم يَضِرْها جَهْدُهُ
ورأى خَلْقاءَ ما فيها طَمَعْ
90 تَعْضِبُ القَرْنَ إذَا نَطَحَهَا
وإذَا صابَ بها الْمرِدَى انْجَزَعْ
91 وإذَا ما رَامَهَا أعْيَا بِهِ
قِلَّةُ العُدَّةِ قِدْمًا والجَدَعْ
92 وعدوٍ جاهِدٍ نَاضَلْتُهُ
في تَراَخِي الدَهْرِ عنكم والْجُمَعْ
93 فَتَسَاقَيْنَا بِمُرٍ نَاقِعٍ
في مَقامٍ لَيْسَ يَثْنِيهِ الْوَرَعْ
94 وارْتَمينْا والأعادِي شُهَّدٌ
بِنِبَالٍ ذَاتِ سُمٍ قد نَقَعْ
95 بِنِبَالٍ كُلٌها مَذْرُبَةٌ
لم يُطِقْ صنعتها إلاَّ صَنَعْ
96 خَرَجَتْ عن بِغْضَةٍ بَيِّنَة
في شَبابِ الدَّهْرِ والدَّهْرُ جَذَعْ
97 وتَحَارضْنَا وقالُوا : إنَّما
يَنْصُر الأقْوامُ مَنْ كانَ ضَرَعْ
98 ثُمَّ وَلي وهْوَ لا يَحْمي اسْتَهُ
طائِرُ الإتْرَافِ عنْهُ قد وَقَعْ
99ساجِدَ المَنْخِرِ لا يَرْفَعُهُ
خَاشِعَ الطَّرْفِ أصَمٌ الْمُسْتَمَعْ
100 فَرَّ مِنِّي هاربًا شَيْطانُهُ
حَيْثُ لا يُعْطِي ولا شَيْئًا مَنَعْ
101 فَرَّ مِنّي حِينَ لا يَنْفَعُهُ
مُوقَرَ الظَّهْرِ ذَلِيلَ المُتَّضَعْ
102 ورَأى مِنّي مَقَامًا صَادِقًا
ثَابِتَ المَوْطِنِ كَتَّامَ الوَجَعْ
103ولِسَانًا صَيْرَفِيَّاً صَارِمًا
كحُسَامِ السَّيْفِ ما مَسَّ قَطَعْ
104 وأتانِي صَاحِبٌ ذُو غَيِّثٍ
زفْيَانٌ عِنْدَ إنْفَادِ القُرَعْ
105 قَالَ لَبَّيكَ وما اسْتَصرْخْتُ
حاقِرًا لِلنَّاسِ قَوَّالَ القَذَعْ
106 ذُو عُبَابٍ زَبِدٍ آذِيُّهُ
خَمِطُ التَّيَّارِ يَرْمِي بِالْقَلَعْ
107 زَغْرَبِيٌ مُسْتَعِزٌ بَحْره
ليس لِلماهِرِ فيهِ مُطَّلَعْ
108 هَلْ سُوَيْدٌ غَيْرُ لَيْثٍ خَادِرٍ
ثَئِدَتْ أرضٌ على فانْتَجَعْ
تمهيد للشرح :
زعم المستشرق الكبير كارلوس يعقوب ليال في مقدمة ترجمته لهذه القصيدة أنها قصيدتان معًا من وزن واحد وقافية واحدة ، الأُولى تبدأُ من البيت الأول إلى البيت الرابع والأربعين ، والثانية تبدأ من البيت الخامس والأربعين إلى آخر القصيدة.
وزعم أن القصيدة الأولى متماسكة وأن القصيدة الثانية فيها اضطراب وفجوات وتنتهي بوصف قوى للمساجلة التي كانت بين الشاعر وخصمه .
وذكر الأستاذان عبد السلام محمد هارون" والشيخ أحمد محمد شاكر ـ رحمهما الله ـ في شرحهما وحديثهما عن هذه القصيدة أنها من أغلى الشعر وأنفسه ، قالا :" وقد فضلها الأصمعي وقال كانت العرب تفضلها ـ تقدمها وتعدها من حكمها ، وكانت في الجاهلية تسميها اليتيمة لما اشتملت على من الأمثال " .
ولقد نظرت في القصيدة وتأملت معانيها وعجبت أول الأمر للزعم الذي زعمه المستشرق كارلوس ليال، إذ القصيدة بلا ريب كلٌ واحد ، متماسكة جداً ، ليس فيها فجوات أو اضطراب كما سنبين من بعد إن شاء الله تعالى .
كما قد عجبت لهذا الذي يروى عن الأصمعي ـ رحمه الله ـ حيث قال إن العرب كانت في الجاهلية تُسميها اليتيمة . ذلك بأن القصيدة إسلامية الأسلوب من مبدئها إلى نهايتها ، لم يذكر فيها الشاعر شيئًا من مآثر الجاهلية الكبرى التي حرّمها الإسلام كالخمر والميسر .
فإما أن تكون القصيدة كلها نظمت في الفترة التي كان فيها سويد مسلمًا. وإما أن يكون قد سمع القرآن قبل إسلامه وتأثر ببيانه وهذا أمر يوجد في لعض أشعار الأعشى ولبيد قبل إسلامهما . وقد كانت قريش تحرض الشعراء وتشجعهم أن يباروا القرآن استجابة للتحدي الذي تحداهم به ـ قال الله سبحانه وتعالى :
" وإن كُنتُم في ريبٍ ممَّا نزلَّنا على عَبدِنا فأتوا بسُورةٍ من مثلهِ وادعُوا شهداءكم من دُون الله إن كنتم صادقين. فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتَّقوا النَّار التي وَقودُها النَّاس والحِجارةُ أُعدَّت للكافرين "
صدق الله العظيم( سورة البقرة الآيات: 23،24 )
وقال تعالى : " قل لئِن اجتَمعتِ الإنسُ والجِنُّ على أن يأتُوا بِمِثل هذا القرءانِ لا يَأتون بمثلِه ولو كان بعَضُهم لبعضٍ ظهيرا".( سورة الإسراء الآية : 88).
روحُ القصيدة وسياقها وكثير من ألفاظها وأساليب بيانها كل ذلك يشهد بتشبعها بالمعاني الإسلامية ، ولذلك نرجح أنها نظمت في الإسلام وأن تسميتها باليتيمة كانـت ـ والله تعالى
أعلم ـ في الإسلام لا الجاهلية .
تتكون القصيدة من اثنى عشر فصلاً.
الفصل الأول:من البيت(1) إلى البيت(7) وهو الجزء الأول من المقدمة النسيبية. بدأ سويد قصيدته كعادة الشعراء القدماء بالنسب يهييء به الأذهان حتى تستمع إليه . في هذه البداية النسيبية وصف لنا محبوبته فأعطانا صورة جميلة عنها .
الفصْلُ الثاني : من البيت (8) إلى البيت (19) . فيه الجزءُ الثاني من المقدّمةِ النسيبية ، ذَكَر الشاعِرُ فيه طَيْفَ الخيالِ وسَهَرَ العاشقِ يتذكَّرُ أحِبَّاءهُ ويُراقِبُ النجومَ ويتذكَّرُ مَحَاسِنَ محبوبتهِ وطِيبَ حديثها . سمَّاها الشاعِرُ هنا سَلْمَى وكان في البيت الأول سمَّاها رَابِعَةَ ، والشاعرُ قد يُسَمي محبوبَتَهُ بأكثرَ من اسمٍ واحدٍ . ويجُوز أنَّ رابِعةَ وَصْفٌ لها ، أي هي رَابِعَةٌ أي عاطِفَةٌ علينا وهذا يناسب قوله " بسطت رَابِعَةُ الْحَبْلَ لنـا " ربع
على كذا يربع : عطف .
الفصْلُ الثالث: فيه وَصْفٌ للصحراء وحرّهِا والسيرِ فيها من البيت (20) إلى (29) . وقد وَصَفَ الشاعِرُ سَفَرًا على ظُهُورِ الْخَيْلِ وجعلَ ذلك تَمْهِيدًا للوصول إلى ديار قوْمِه بني بكر ومدحهم .
الفصل الرابع: من البيت (30) إلى البيت (44) . وفيه مدح قبيلته الكبيرة بني بكر – ذكر حسن منظرهم وحسن حديثهم وسعة فضلهم وقديم مجدهم .
الفصل الخامس: من البيت (45) إلى البيت (50) .عاد إلى ذكر طيف الخيال والشوق وذكرى المحبوبة ، يهيىء بهذا النسيب المختصر سامعيه إلى دفعة (1) جديدة من القول الذي سيبلغ به مراده فيما بعد . وختم هذا الفصل القصير بمعنى يدل على شدة الشوق الذي يحث صاحبه على طلب اللحاق بأحبابه .
الفصل السادس: من البيت (51) إلى (60). ذكر فيه سفره ليلحق ، وجعل السفر هذه المرة على ناقة أو جمل ليدل على بعد المسافـة،ونعت
راحلته بالسرعة والقوة فزعم أنه أحس وهو عليها كأنه يمتطي ثورا وحشيا تطارده كلاب الصيد ومعهن صاحبهن الصياد الذي يرمي بسهامه القاتلات . ومع ذلك نجا الثور ، وهذا يدلنا على أن الشاعر يرمز بذلك إلى نجاته هو وانتصاره . ذكر الجاحظ في كتاب الحيوان أن الشعراء تقتل الثور الوحشي والحمار الوحشي وما أشبهه في قصائد الرثاء ، وتجعله ينجو للدلالة على معنى الانتصار وفي مجال المدح والفخر .
الفصل السابع: من البيت(61) إلى البيت (66). افتخر الشاعر بقبيلته ، وفي استعماله ضمير المتكلم للجمع (نا) دليل على أنه يخص قبيلته بني يشكر ، فقد مدح القبيلة الكبرى بني بكر من قبل ، ثم إنه جعل نهاية هذا الفصل تعجبا من حال نفسه ، كيف يستطيع القرار فى بلاد ليس فيها متسع ـ ويعجب المرء من هذا التبرم، لماذا جاء به الشاعر بعد فخره بنعم الله عليه وعلى قومه.وإنما جاء بهذا الاستفهام الإنكاري الدال على التبرم ليجعله تمهيدًا لذكر عدوه المنافق الحسود الذي تكاد تضيق الأرض به وبالناس لما انطوت عليه نفسه من الشر والأحقاد .
الفصل الثامن: من البيت (67) إلى (79). يصف فيه الشاعر عدوه الحاسد الحاقد المنافق بمكره ومكايده وغيظ قلبه وصفًا دقيقًا حيًا ويخلص إلى أنه لا يخشاه ولا يبالي ، ويجد من نفسه القوة على أن يتغلب على أمثاله.
الفصل التاسع: يمثل الجزء الثاني من صفة الشاعر لعدوه الحاسد من البيت(80) إلى (81) . وشبه نفسه ومنزلته بالصخرة العالية الملساء ، وهذا العدو لايستطيع أن يزلزلها من مكانها، وهي منيفة فوقه غائظة له كل الغيط بارتفاعها وإشرافها على .
الفصل العاشر:من البيت (92) إلى (100). فيه الجزء الثالث من وصف عدوه وقد ضمنه خبر المساجلة التي دارت بينهما وكيف قهره بفصاحته ورصانة شعره حتـى انهـزم هاربًا
صاغِرًا مغلوبًا .
والفصل الحادي عشر: من البيت (101) إلى (107). وصف فيه انتصاره وقدرة شيطان شعره .
الفصل الثاني عشر: بيت واحد جعله قمة تعبيره ونهايته وجاء به على صيغة الاستفهام ليقرر بذلك المعنى ويؤكده لا بغرض التساؤل .
شرح المفردات ومعاني الأبيات :
(1)بسطت رابعة الحبل لنا : مدت رابعة حبل المودة والوصال إلينا وعطفت علينا فلذلك قبلنا مودتها ووصلنا حبلها مدة استمرارها في العطف علينا ومواصلتنا .
بسطت : أي مدت ( المضارع يبسط بضم السين ) . الحبل هنا معناها الوصل والمودة والعلاقة الطيبة . ما اتسع أي مدة اتساع ذلك ـ مدة استمرار ذلك في حال وصال متسع ومودة متسعة (ما) هنا يقال لها (ما) المصدرية الظرفية لأنها تدل على المدة والمصدر معًا : ما اتسع أي مدة اتساعه . رابعة اسم المحبوبة أوصف لها بمعنى عاطفة وواصلة أو هي المولودة الرابعة لأمها ، والوجه الأول هو الجيد ، لأن الشاعر قد يستعمل أكثر من اسم واحد للمحبوبة في قصيدته ، وقد يتضمن الاسم معنى مناسبًا للسياق الذي يورده فيه . هي اسمها رابعة وهي أيضًا عاطفة لأنها مدت حبل المودة وبسطته لنا .
(2) حرة : أي أصيلة صافية اللون تجلو فمًا حلو الحديث ، أسنانها المفلجة تبدو فيه كأنها لؤلؤ شتيت منثور مشرق لمّاع مثل شعاع الشمس الساطعة وسط الغيم .
هذا البيت في صفة المرأة الجميلة جيد شديد الحيوية إذ وصف لنا أخلاقها وأصلها بأنها حرة ، ووصف لنا ثغرها بأنه شتيت أي مفلج الأسنان كأنها لؤلؤ براق ، وهذا يدل على تبسمها وحسن حديثها ، وشبهه بالشمس وسط الغيم لأن حوله لون الشفتين واللثات وهو ضارب إلى السمرة .
( 3) صقلتـه أي نظفتـه بقضيب أي
بقطعة من غصن ناضر أي ناعم من شجر الأراك الطيب الرائحة ، استاكت به حتى نصع لون أسنانها أي وضح وصفا . صقل مضارعها يصقل بضم القاف . نصع مفتوحة الصاد في الماضي والمضارع .
(4) أبيض اللون أي هي حرة تجلو ثغرا مفلجا أبيض لون الأسنان لذيذا طعمه لمن يكون له حظ سعيد بتقبيله وحينئذ سيجد ريقه طيبا لا يتغير إذا تغير ريق النساء الأخريات . وذلك أن الريق يتغير بعد النوم ." إذا الريق خدع " أي إذا الريق تغير ونقص وجف . خدع يخدع بفتح الدال في الماضي والمضارع .والعرب تقول : أتيناهم بعدما خدعت العين وهدأت الرِجْل أي في متأخر من الليل بعدما نامت العين وهدأت الحركة .
(5) تمنح المرآة أي تعطي مرآتها وجها جميلا أي حين تنظر في المرآة تعطي هي المرآة عطية حسنة هي وجهها الواضح الجميل الهيئة الصافي اللون البراق المضيء كأنه جانب الشمس حين يرتفع في الصحو أي في سماء انقشع عنها السحابُ ، فالشمس فيها منيرة باهرة – الصحو بصاد مهملة أي غير منقوطة ، مفتوحة بعدها حاء مهملة ساكنة ثم واو . منح بفتح النون مضارعها مثلث النون يمنَح يمنُح يمنِح ، كلها صحيحة وأجودها كسر النون ، ولذلك أجود الوجوه أن تقرأ : تمنِح المرآة الخ ..
(6) صافي اللون ، صفة لقوله وجها واضحا صافي اللون-وطرفا ساجيا : أي تمنح المرآة وجها صافيا في لونه وطرفا كحيلا أي عينا كحيلة أي عليها زينة الكحل أو كأنها بطبيعتها مكحولة من حسنها وجمال منظرها الساحر-
ساجيا : من سجا يسجو أى هَدَأ وسكن .قال تعالى : والضحى والليل إذا سجا " أى هدأ وسكن- والطرف الساجي أي الهادئ الوديع ." ما فيه قمع " أي خال من وجع أو ورم . أي نشأت صحيحة العينين لم يصبها رمد يسبب لها القمع في جوانب جفنها وعينها – القمع وجع وبثور وأورام تصيب جانب العين. كلمة الطرف تدل على البصر والعين ولكنها لا تثنى ولا تجمع، وطُرِفت العين تطرف بكسر الراء في المضارع أي نظرت ، وطُرِفت عينه بالبناء للمجهول أي أصابها شيء . قمعت عينه بكسر الميم تقمع بفتح الميم قمعا بفتح القاف والميم أي أصابها داء القمع الذي تقدم شرحه .
(7) وتمنح المرآة أيضا منظر شعرها الجميل . وقرونا أي خُصلا من الشعر – قرونا مفعول به ، لقوله تمنح الذي تقدم . سابغا أطرافها أي خُصلا من الشعر أطرافها غزيرة كاسية . وقد أدخلت فيها المسك الكثير والطيب الزاكي الرائحة . غللتها أي أدخلت فيه . غَل في المكان يغُل أي دخل وغللتُه أنا في المكان أي أدخلته . غللتها ريحَ مسك أي أدخلت فيها ريح مسك : ذي فنع : أي ذي كثرة . الفنع بفتح الفاء والنون أي الكثرة . فنع فلان يفنع بكسر النون في الماضي وفتح النون في المضارع أي كثر ماله
وفنع مال فلان أي كثر . قال الشاعر
أبو محجن الثقفي :
وقد أجودُ وما مالي بِذِي فَنَعٍ
وأكْتُمُ السّرَّ فيه ضرْبَةُ العنُقِ
وفنعُ المسكِ كثرته وانتشار رائحته . ريحَ مسك – ريح منصوبة مفعول به لغلَّلتها وأنشدها بعض الرواة برفع ريح على معنى تغللتها ريح مسك والرواية الجيدة هي النصب وفاعل غلَّتها المحبوبةُ التي وصفها الشاعر.
تعليق :
هذه الأبيات التي تقدم شرحها من (1) إلى (8) هي الجزء الأول من النسيب أي القسم الخاص بذكرى المحبوبة ووصفها ، والشاعر العربي يُضمِّن النسيب إشارات إلى أغراضه التي يتناولها في القصيدة . المحبوبة هنا عاطفة والشاعر على صلة حسنة معها وسيدوم على ذلك ما دامت هي على ذلك .
وسنبين فيما بعد – إن شاء الله – أن هذه المحبوبة كأنها رمز لقبيلة الشاعر ولنفسه ولانتصاره على خصومه .
تهتم العرب في نسيبها بوصف الثغر لأنه يدل على الابتسام وحسن الحديث ، وبوصف الطرف لأنه يعبر عن العواطف ويدل على الشخصية .
لم تكن نساء العرب حُمْر الألوان أو شُقر الألوان . ولم تصف شعراء العرب في جاهليتها وفي أيام الإسلام الأولي نساءها بتوريد الخدود (*) وإذا قالوا امرأة بيضاء عنْوا بذلك أنها جميلة . وربما وصفوا اللون نفسه فذكروا أن فيه صُفرة كبيض النعام أو كالفضة التي مازجها ذهب أو الروضة التي شعَّت عليها شمس الأصيل أو الأُترجَّة أي البرتقالة الفواحة الطيبة الرائحة .
الفصل الثاني وهو الجزء الثاني من النسيب :
(8) هيج الشوق خيال ـ أي زارني طيف الخيال من المحبوبة وهيج شوقى إلى لقائها . هذا الخيال زارني من عند محبوبتي ذات الحياء والتحشم والوقار امرأة خفرة بفتح الخاء وكسر الفاء أي تستحي وتتحشم. الخَفَر بفتح الخاء والفاء أي الحياء . حبيـب خفِـر
بكسر الفاء أي حبيب حيي فيه قدع : أي فيه وقار وانقباض عن الظهور والجراءة . قدعت فلاناً عني أقدعه وأقدعت فلانا أقدِعه أي رددته عني وفلان يقدَع نفسه عن الدنايا أي يتعفف، وفيه قدع أي فيه عِفة ووقار- ويقدع نفسه عن الأمور التي يهابها . القدع بفتح القاف والدال أي التعفف والتهيب والانقباض بسبب الحياء والعفة .
هيج شوقي خيالٌ زارني من حبيب كثير الحياء والهيبة للمخاطر لوقاره وعفته .
من عادة شعراء العرب إذا وصفت
طيف الخيال وصفته بأنه يركب الأهوال ويتخطاها مع أن المحبوب نفسه شديد الهيبة والحياء .
(9)شاحط : بعيد : شطحت ( بفتح الحاء وكسرها ) الدار أي بعدت تشحَط أي هذا الطيف الذي زار في المنام قد جاء من حبيب بعيد جداً عني. وقد جاز هذا الخيـال مسافـة
الصحراء حتى زارنا في أراحلنا ونحن مسافرون وبيننا وبين دياره غابات كثيرة فيها الشوك والهوام والسباع والأهوال ، مع ذلك هذا الطيف قد جاز ـ أي قطع ـ عصب الغابات أي مجموعات الغابات التي بيننا وبينه ـ طُروقًا أي ليلاً ولم يخفْ ـ لم يرعْ أي لم يرعْه شيء أي لم يخفه شيء . تقول راعه الأمر يروعه أي أخافه يخيفه .
(10)آنسٍ ـ صفة للحبيب الخفِر ولطيفه الزائر، أي مؤانس وملاطف. وهذا الطيف كان كلما اعتادني أي كلما عاودني بزيارته أرقني وحال بيني وبين النوم فامتنع النوم عني .
تقول: عاده كذا واعتاده وعاوده ، كلٌّ معناها واحد ـ يقال تعتادني الحمَّى كل ثلاثة أيام وتعودني وتعاودني . قال الشاعر ذو الرُّمة يذكر محبوبته :
تَعْتَادُنِي زَفَرات من تَذَكُّرها
تَكادُ تَنْفَضُّ منهنَّ الحيازيم
أي زفرات شديدة تؤثِّر في الصـدر
هزتها حتى توشك الضلوع أن تنكسر وتنفصل .
(11)وكذَاكَ الحُبُّ ما أشْجَعَهُ
يَرْكَبُ الْهَوْلَ وَيَعْصِي مَنْ وَزَعْ
هذا البيت من أبيات الحكمة الرائعة .
لما ذكر الشاعر طيف الخيال ونسبه إلى محبوبته الحبيبة الهيوب تَعجب منه كيف استطاع أن يتجاوز الأهوال والغابات ويصل إلى ؟ كيف جسر على تخطي هذه الأهوال مع أن صاحبته امرأة لا تقدر على ملاقاة هذه الأهوال؟
والحق أن الحبيبة التي زاره طيفها لم تزره هي نفسها ، ولا أرسلت طيفها إليه. ولكن الذي صور له صورتها وجعل طيفها يزوره فى المنام هو تفكيره هو نفسه فيها ، وعقله الباطن هو الذي صورها له . وقد بين هذا المعنى لنا من بعد الشاعر أبو تمام حيث قال :
زارَ الخيالُ لها بل أزارَكَهُ
فِكْرٌ إذا نَامَ فكرُ الخَلْقِ لم ينَمِ
أي زارك خيالها لا بـل جعله يزورك
تفكيرك فيها ، وذلك أنك بتفكيرك فيها الدائم لا ينام عقلك حتى حين ينام الناس وتنصرف عنها وعن غيرها أفكارهم .
إذن فعقل الشاعر وفكره هو الذي اقتحم الليل ونسي أهوال الصحراء وعُصب الغاب وتجاوز جميع ذلك إلى الحبيب الحيي الهيوب الشاحط الدار أي البعيد الدار ، وإنما فعل فكره ذلك بجراءة الحب وشجاعته :
وكذَاكَ الحُبٌ ما أشْجَعَهُ
يَرْكَبُ الْهَوْلَ وَيَعْصِي مَنْ وَزَعْ
ويعصى من نهاه . الوازع هو الذي يُنَظّمُ أمْرَ الناس ويمَنَعهم من الفَوْضَى. ولابدَّ للنَّاس من وَزَعةٍ ، أي الناس يحتاجون إلى وَزَعةٍ جمع وازِع ، مثل كَتَبة جمع كاتب وعَمَله جمع عَامِل وقَرَأة جمع قارِيء . وَزَعُ يزع فهو وَازِع وهم وَزَعَةٌ .
في الحديث : من يَزُع السلطانُ أكثر مِمَّن يَزُع القرآن ـ أي يكفّه خوفُ السلطان من ارتكاب الخطأ أكثـر ممن يَكـفُّ القرآن بمواعظـه
وتذكيره .الفعل وَزَع مثل وَضَع ووَزَن مضارعه بفتح الزاي ( يزع مثل يَضَفُ وبكسرها يَزِعُ مثل يَزِنُ ).
كما تجرَّأ هذا الطيف فتخطَّى الأهوال ، كذلك الحبُّ يركبُ الأهوال ويتحداها ويَعْصِي من يريد نَهْيَهُ وكَفَّه عن اندفاعِه في سبيلِ الحبِ .
(12)ثم بعد هذه الحكمةِ تحدَّث الشاعرُ عن تأريقِ الحبِ له حتى سَهِرَ وجعل يراقب النجوم وقال :
فأبِيتُ اللَّيلَ ما أرْقُدُهُ
وبِعَيْنَيَّ إذا نَجُمٌ طَلَعْ
أي أقضِي الليل ساهراً فأرى كلَّ نجم أوانَ طلوعِه .
(13) وإذَا ما قُلْتُ لَيْلٌ قد مَضَى
عَطَفَ الأوٌلُ مِنهُ فَرَجَعْ
والحقيقة أن أول الليل لا يعطف مرة أخرى وينثني راجعًا بعد ذهابه ، ولكنَّ من يسْهَرُ الليل ويأرق ويفكر تمضي الساعات عليه بطيئة فيظن أن الليل قد كر راجعًا وقد زيد طوله.
قال الفرزدق :
يَقُولُونَ طالَ اللّيلُ واللّيلُ لم يَطُلْ
ولكنَّ من يشكُو من الحُبِ يَسْهَرُ
وقال النابغة الذبياني ، وقد تأثر شاعِرُنا سويد بقوله إذْ كان مشهورًا :
كِليني لِهَمّ ياأُمَيْمَةَ(*) نَاصِبِ
وليلٍ أُقاسيه بطِيءِ الْكواكبِ
تَطاوَل حتى قلْتُ ليس بمُنْقضٍ
وليْسَ الذي يَرْعَى النجوَم بآيبِ
توهم أنَّ النجوم بهائم ترعى وهي بطيئة هائمة وقد ذهب راعيها ولن تعود ـ فهذا تمثيل مثله لبطئها ولمراعاته لها .
(14)هذا الليل يسحب نجومه ، يجرها جراً ، وهي من بطئها كأنها حيوانات ظالعة أصابعها وجع أو جرح في الرجل فهي تظلع من أجل ذلك . والنجوم تتبع بعضها بعضا ، والنجوم المتأخرة بطيئة جداً في اتباعها للنجوم المتقدمة . ظلع بضم الظاء وتشديد اللام المفتوحة جمع ظالع ، والجمع على صيغة فُعَّل وفُعَّال مطَّرد في كل
كلمة على وزن فاعل أو فاعلة ، ولكن صيغة فُعَّال مثل كُتَّاب وعُمَّال وقُرَّاء أكثر ما تستعمل للمذكر ، وصيغة فُعَّل تستعمل للمذكر والمؤنث ، وقد تستعمل صيغة فُعَّال أحيانًا للمؤنث ؛ قال القُطَامي يتحدث عن النساء :
أبصارُهنَّ إلى الشُّبَانِ مائلَةٌ
وقد أراهُنَّ عَنِيّ غَيْر صُدَّادِ
أي غير ذوات صُدود .تواليها جمع تالٍ أي النجوم التي تتلو ما أمامها تتبعها بطيئات التَّبع أي بطيئات الاتّباع، تقول تبعت فلانًا أتبعه تبعا واتبَّعتُه اتباعا وأتْبعته أتبعه إتباعًا ـ كلها متقاربات في المعنى .
(15)ويُزَجّيِها على إبْطَائِها
مُغْرَبُ اللَّوْنِ إذَا اللَّوْنُ انْقشَعْ
أي هذه النجوم بطيئات يتبع بعضها بعضا .
ويزجيها أي يسوقها . تقول أزجيت راحلتي وزجيتها أي سقتها برفق مضارعه أزجى يُزجي ومضارع زَجَّى يُزجي.وبضاعة مُزجاة أي قليلة.
يقول الشاعر هذه النجوم البطيئات وراءها سائق يسوقها برفق وبلا إسراع هذا السائق مغرب اللون أي فيه بياض وحمرة يعني الفجر ، حين لون الليل الأسود ينقشع أي يأخذ في الزوال ثم يزول . انقشع الليل أي مضى وذهب .
أصل كلمة المُغرب في وصف الخيل للحصان الذي يكون في وجهه بياض وعند ملتقى أطرافه بجسمه حمرة ـ أي هو غريب في لونه ، والشاعر عني بالمغرب اللون الصبح ، لأن الفجر الكاذب يلوح بحمرته عموديا كذنب منتفـش ، ثم يجـيء الفجـر الصادق، وهو بياض أفقي ثم يجيء الشفق الأحمر وتنكشف الدنيا وينقشع لون الليل بسواده .
(16) راقب الشاعر النجـوم وتـذكر
أشواقه وحبه فقال :
فَدَعَانِي حُبُّ سَلْمَى بَعْدَ مَا
ذهَبَ (3)الْجِدَّةُ مِنِيّ والرَّيَع
سمى محبوبـته " سلمى " بعد أن كان
قد سماها رابعة ، الجدة بكسر الجيم وتشديد الدال المفتوحة أي الشباب الأول ، والريع بفتح الياء بعد الراء المشددة المفتوحة أي ريعان الشباب وشدته وعنفوانه .
بين لنا الشاعر هنا أنه قد تقدمت به السن وأن حبه لرابعة وهي سلمى كان في زمان الشباب ، وحينئذ بسطت مودتها ووصلها له . وهو يتذكر جميع ذلك ولا ينساه ويشتاق إلى زمانه .
(17)ولقد أحبها حبا شديداً كأنه جنون وكأنها خبلته أي أصابت عقله بجنون من حبها .
يجوز أن تقول خبلتني بدون تشديد وخبَّلَتني بالتشديد ، رُوي البيت بالوجهين. تقول خبلُه الحب يخبلُه بضم الباء في المضارع خبلاً وخبله الحب يخبله تخبيلاً .
وروي البيت أيضًا هكذا : خبَّلتنـي ثم
لمّا تُشفني بالحاء المهملة أي صادتني بحبالها أي بشرك حبها . تقول حبلتُ
الصيد أحبُله بضم الباء في المضارع.
شفاه يُشفيه وأشفـاه يشفيه ، ثلاثـي
ورباعي .
يقول الشاعر هذه المحبوبة شغفتني حبًا ، جننتني أو صادتني بحبها ولم تداوني من مرض الحب إلى الآن ففؤادي ذاهب وراءها في كل جهة متفرّق بالشوق إليها في كل أوب أي في كلّ وجه من الدنيا وفي كل مكان ـ " كلَّ أوب " أي في كل مكان. كل منصوبة على الظرفية .
(18)ثم ذكر الشاعر أن من أسباب حبه لها ، ومن الوسائل والحبائل التي اصطادته بها ، حديثها الساحر من فمها الباسم الجميل الذي وصفه من قبلُ فقال :
حُرَّةٌ تَجْلُو شَتيتًا واضحًا
كشُعَاع الشَّمْسِ في الغَيْمِ سَطَعْ
ثم قال :
أبْيَضَ اللَّوْنِ لَذِيذًا طَعْمُهُ
طَيّبَ الرّيقِ إذَا الرّيقُ خَدَعْ
والعرب تزعم أن الوَعِـل أي الثـور الوحشي الأعصم الذي في يديه بياض يكون في أعالي الجبال ، وهو سريع شديد الحذر عسير الصيد ، فالصيادون يحتالون لصيده ، وكذلك أُنثى الوعل ، ويقال لها الأُرْويَّة بضم الهمزة وسكون الراء بعدها واومكسورة بعدها ياء مفتوحة مشددة وتاء التأنيث الجمع أراوى آخرها ألف لينة . قالوا : والأروية والوعل يطربان للصوت الجميل ، فإذا أراد الصيادون صيد الوعل أو أنثاه الأروية نصبوا الأشراك وتغنوا بأصوات جميلة فيجيء الوعل وتجيء الأروية وتستمع وتطرب فيقعان في الشرك .
الرُّقية وجمعها الرقى هي ما يتداوى به الإنسان من السم والسحر . أحيانا تكون شيئًا يشرب أو نحو ذلك وأحيانًا تكون دعاء وكلمات كقراءة الفاتحة مثلا للسعة العقرب .
زعم الشاعر أنه كالوعل البري شراسة وقوة وامتناعًا ، ولكن سلمى دعته بحديثها العذب المؤثر كما تؤثر الرقية في الملسوع والملدوغ والمسحور . حديثها العذب المطرب المؤثر الذي يمكن أن يصطاد الوعـل بـه فينزل لاستماعه من أعلى الجبل.
اليَفع أي المكان المرتفع .
يقول الشاعر إنها أثرت في بحديثها الجميل المطرب الذي ينزل له من يكون صعب المنال مثلي ومثل الوعـل الجبلي فيقع في الشرك .
(19)استمر الشاعر في وصف حديث سلمى العذب فقال إنها تسمع المتحدثين إليها حديثها الحسن ولو طلبوا غيره من غيرها من الناس لم يجدوه . هي وحدها تملك هذا القول الرائع المؤثر الذي تصطاد به القلوب.
الحُدَّاث أي الذين يحدثونها . تقول هو رجل حدث بضم الدال وحدث بكسر الدال أي كثير الحديث وحدث بكسر الحاء وسكون الدال وهم حُدَّاث.
تعليق :
إلى هنا انتهى الجزء الثاني من الغزل، ومن عادة الشعراء إذا ذكروا المحبوبة وأشعروا أن أسباب حبهم ما زالت باقية زعموا أنهم سيلحقون بالمحبوبة ، فيجعلون ذلك وسيلة إلى وصف الطريق والراحلة والصحراء وطبيعة البيئة التي يعيشون فيها .
ثم يكشفون المعاني الرمزية التي يشيرون إليها بنسيبهم .
الشاعر هنا سيقطع الصحراء على ظهر الخيل ، والعرب لا تقطع المسافات الصحراوية الشاسعة بالخيل ولكن بالإبل . ولكن الغرض الذي يخبرنا الشاعر بأنه يريد الوصول إليه هو ديار قبيلته العظيمة بني بكر . وإذن ركوب الخيل يرمز به إلى الفروسية والقتال . وقد وضع قبيلته بني بكر موضع المحبوبة التي يشتاق الشاعر إليها ويطلب اللحاق بها .
وكما وصف الشاعر سلمى أو رابعة بأنها بسطت مودتها له ، وبأنها جميلة المنظر حلوة الحديث ، كذلك وصف قومه بني بكر بالسماحة وبسط اليد كرمًا كما وصفهم بحسن الخُلق والمنظر وجودة الحديث : " منظرٌ فيهم وفيهم مُسْتمعْ " (4) .
والآن ننتقل إلى شرح الفصل الثالث وهو السير والصحراء والخيل التي ركبها ، من البيت (20) إلى (29) .
(20)المَهمَه: الصحراء ، الجمع مهامِه
ممنوع من الصرف ، لصيغة منتهى الجموع نازح بعيد . غور الصحراء بُعدها واتساعها . نازح الغَور : بعيد المسافة . الآل هو سراب أول النهار.
يقول الشاعر: كم وكم قطعنا من أجل الوصول إلى سلمى صحراء وصحراء كانت بيننا وبينها ، صحراء بعيدة المدى ، سافرنا فيها وسرابها يلمع وحرها شديد .
(21)في ريح حارة ـ الحرور بفتح الحاء هي ريح النهار الحارة وتقابلها السَّموم بفتح السين وهي ريح الليل الحارة ـ سافرنا نهارًا والريح حارة حرّاً تلتهب له الدنيا ويمكن إنضاج اللحم على رمضائه ، والسائر فيها تصيبه من الشمس ضربة شديدة كأنها صاعقة ـ الصقع حر في الرأس . وصقعت الشيء: ضربته أصقعه بفتح القاف صقعًا والصقع بمعنى وجع الرأس بفتحتين على الصاد فتحة وعلى القاف فتحه .
وتقول صعِق فلان، بالمبني للمعلوم ، يصعق وصُعق يُصعق بالمبني للمجمهول أي أصابته صاعقة ويقال أيضا صاقعة والفعل صقَع يصقَع .
نضِج الشي بكسر الضاد ينضَج بفتحها في المضارع نُضجًا بضم النون وفتحها ولا تقل " نضوجًا " فهي غير صحيحة ـ والشيء ناضِج ونضِج وأنضجته أنا إنضاجًا .
(22)وكم تخطيت من أجل اللحاق بسلمى ولشوقي إليها ، كم تخطيت من ديار فيها أعدائى ، تجاوزت هؤلاء الأعداء بشجاعتي وقوة عزمي وملازمتي للجد والعزيمة .
عُدى بكسر العين وبضمها أي أعداء . بزماع الأمر : بالجد في الأمر . الزماع بفتح الزاي مثل السحاب في الوزن وبكسر الزاي مثل الكتاب في الوزن،هو الجد في الأمور وقوة العزيمة . كنع الأمر يكنُع كنُوعاً أي قرب.أعوذ بالله من الخنوع والكُنوع والقُنوع ـ الخنوع طأطأة الرأس مذلة وخضوعًا . الكنوع الدنو من الناس لتملقهم وللتذلل لهم ، والقنوع سؤال الناس . وكنع بكسر النون يكنع أي لزم الأمر . " الأمر الكنع " بكسر النون أي الملازم أي سافرت بحزم وجد وعزيمة قوية ملازمة .
(22)وكم من فلاه أي صحراء واضحة الجوانب أي لامعة الجوانب بضوء الشمس تبدو نواحيها وسط السراب والغبرة . مثل قطع السحاب المتفرقة (5)
وفلاة : صحراء جمعها فلوات . أقراب جمع قُرْب بضم القاف أي جنب وقُرْب الحيوان هو جنبه الذي فيه كُليته . واضح أقرابها أي واضحة أقرابها ، جر واضحة لأنها نعت سببي لفلاةٍ وأقرابها فاعل وهو جمع تكسير ويجوز تذكير الفعل وتذكير النعت السببي مع جمع التكسير ـ كأنك قلت وفلاة وضح أقرابه أي وضحت أقرابها فهي واضحة أي بيِّنة ولامعة في ضوء الشمس .
مُرْفَت ، أصل هذه الكلمة من الرفات أي العظام البالية المتكسرة، والقَزَع جمع قَزعة وهي السحابة المتفرقة وكذلك قطعة الشعر التي تبقى في رأس الصبي . والعرب تقول لقطع السحاب المتفرقة قزع وقنازع ، وكذلك لبقايا الشعر المتفرق ـ ويقولون ما بقي في رأس فلان إلا قنازع أي قطع متفرقات من بقايا الشعر وارْفتَّ الشيء أي تفرق وتكسر . " مُرفت القزع " أي قطع السحاب المتفرقة .
(24)هذه الفلاة يسبح السراب على تلالها ومرتفعاتها وعلى جميع أرجائها وبيدائها حين يرتفع النهار . السراب الذي يرتفع قرب الزوال عند أول ارتفاع النهار هو الآل ، أعلام جمع عَلَم وهو التل والجبل والمكان المرتفع الظاهر . البِيد جمع بيداء أي مكان قفر ، والبيد القفار الخالية ، ومَتَع اليوم يمتَع " بوزن منع يمنَع " ومتع النهار أي ارتفعت شمسه .
(25)فركبنا هذه الفلاة الواضحة الأقرب التي تبدو نواحيها كالسحاب المتفرق المتشتت ، كأنه ثياب قطعها بالية متفرقة ، ركبناها بالرغم من أنا لا ندري مجاهلها وأهوالها بخيل صلاب الأرض ـ أي صليبات الحوافر ، فيها خفة وإسراع ، شجع بالتحريك أي خفة وإسراع . الأرض هنا بها الحوافز وبقوله صلاب الأرض دل على أنها القوائم ولكنه هنا عني الخيل .
وتقول العرب صلب الشيء فهو صلب بضم الصاد وصليب وصلب بضمتين وشدة والجمع صلاب .
(26)وهذه الخيل كالمغالي أي كالسهام الواحد مغلي بكسر فسكون ، وهي عارفات بالسُّرى وهو سير الليل ومسنفِات بكسر النون أي متقدمات مندفعات أو مسنَفات بفنح النون أي مقدمات مدفوعات إلى الأمام ، لم تجعل عليها سيور تترك على جلودها وشمًا أي أثراً كأنه الوشمة أي النقش عل الجلد ، المغلي أي السهم اشتقاقها عن غلا بالسهم يغلو به أي رمى رميًا شديداً والمسافة التي يقطعها السهم في أشد الرمي اسمها غلوة بفتح الغين والجمع غلاء .
والعرب تقول جري المذكيّات غلاء أي جري الخيل الجياد لا يحكم عليه مرة واحدة ولكن بجريات متعددة .
والسِناف بكسر السين خيط يشد به حزام الإبل ، والإسناف في الحرب هو التقدم ، وأسنفت الناقة وأسنفت الفرس أي تقدمت ورواية البيت بكسر النون من مسنفات وبفتحها ، وقال الشاعر : لم توشم بالنسع لكيلا يتبادر إلى ذهنك من قوله مسنفات أنها إبل فنفى أن تكون مشدودة الحزام بسير أو نسعة تؤثر على جلدها . والنسعة بكسر النون السير وجمعها نسع بكسر ثم فتح.
(27)فترى هذه الخيل عصفًا(بضماين) أي سريعات عاصفات مثل الريح ، ولحوافرها الشديدات نعال حديد مما صنعه القين ، والقين هو صانع ، وأكثر ما تطلق على الحدَّاد والجمع قيون . والقينة الصانعة وأكثر ما تطلق على المغنية هذه النعال الحديدية تقيها الأذى من ضربها للحجارة ضربًا شديًدا وهي على أرض فيها صلابة وحجارة . الوقع بفتحتين أي الضرر الذي يلحق بالحافر . تقول العرب وقع الحافر يوقع وقعًا بوزن وجع يوجع وجعًا والمعنى متقارب (6) .
(28)هذه الخيل قد اندفعت في الليل وكستها ظلمته وسواده فكأنه درع عليها وهذه الخيل يهوين بنا هويًا أي يندفعن بنا مسرعات كأنها القطا الكدر الألوان التي جاءت مسرعة إلى ورود الماء وجعلت تهوي إلى الشرع أي إلى المكان الذي ترد فيه الماء ـ العرب تقول لمورد الماء شريعة وشرع بالتحريك ومشرعة . والقطا ترد الماء عند الفجر وأول الصباح ، والقطا نوعان نوع فيه سمرة وهو الكُدر والواحدة كُدرية فيه سواد وهو الجون والواحدة جونية .
(29)والقطا حين ترد تشرب بخفة ومن دون إسراف شرب الشارب من الماء قليلاً قليلاً قيل شرب غشاشًا . وقال الشاعر :
لا أذوقُ النَّومَ إلاَّ غِراراً
مثلَ حسوِ الطَّيرِ ماءَ الثّمادِ
أي أنا قليلاً قليلاً مثل حسو الطير من ماء الثماد جمع ثمد وهو الماء القليل على وجه الأرض والكلمة معروفة في عاميتنا نقول " تمد "
قال سويد :
فَتَنَاوَلْنَ غِشاشًا مَنْهَلاً
ثُمَّ وَجَّهْنَ لأرْضٍ تُنْتَجَعْ
أي تناولن شرابًا قليلاً قليلاً ثم توجهن إلى أرض يردن انتجاعها أي القصد إليها والإقامة بها. المنهل مكان الشراب أو الشراب نفسه. نَهِلَ يَنْهَلُ أي شرب الشربة الأولى. الشراب الأول نَهَلٌ والثاني عَلَلٌ(7) وجه بمعنى توجّه.
تعليق:
قوله "ثمَّ وجّهن لأرض تنتجع" يعنى أرض قومه بني بكر. ولقد قال من قبل فى البيت (20):
كَمْ قَطَعْنا دُونَ سَلْمَى مَهْمَهًا
نازِحَ الْغَوْرِ إذَا الآلُ لَمَعْ
فزعم أنه قطع المهمه من أجل اللحاق بسلمى ، وهنا قال إن خيله توجهت لأرض طيبة ينتجعها الناس ، يطلبون المرعى فيها ، النجعة بضم النون أي طلب المرعى والكلأ ( أي الحشيش الذي يرعى ) وانتجع أي طلب المرعى ، ومكان منتجع أي طيب فيه مرعى وتحسن به الإقامة .
ولذلك زعمنا أن سلمى أو رابعة كما هي محبوبة توصف بحسن المنظر وحسن الحديث هي أيضًا رمز لديار الشاعر ولقومه. وهذا الأسلوب كثير في الشعر، حتى في شعرنا العامي موجود ، فقد قال خليل فرح رحمه الله:
عز في هواك عز نحن الجبال
يعني يا بلدنا العزيز نحن كالجبال الراسية في حبك والدفاع عنك .
(30) ثم فسر الشاعر هذه الأرض التي تُنْتَجَعْ وبيَّن حقيقتها أنها ديار قومه بني بكر وهم فيها كالملوك وهي مملكتهم أي الديار التي يملكونها ويدافعون عنها ويقيمون فيها مآثرهم ومفاخرهم :
مِنْ بَنِي بَكْرٍ بِها مَمْلَكَةٌ
مَنْظَرٌ فِيهم وفِيهم مُسْتَمَعْ
مستمع مصدر ميمي من استمع . أي هذه الديار التي فيها مملكتهم هم فيها أهل منظر جميل (8) وحديثهم يجذب الأسماع إليه . وهم فيهم منظر وفيهم مستمع أي ما يستمع إليه .
تذكر أيهـا القارئ قوله من قبـل في رابعة بعد أن وصف ثغرها ووجهها وطرفها وشعرها وخُصَلَةُ السابغة :
تُسْمِعُ الْحُداثَ قَوْلاً حَسَنًا
لو أرادُوا غَيْرَهُ لم يُسْتَمَعْ
(31) وتذكَّر أيها القارئ الكريم أيضًا قوله في أول القصيدة عن رابعة في أول النسيب الذي نسب فيه :
بَسَطَتْ رَابِعَةُ الْحَبْلَ لَنا
فَوَصَلْنَا الْحَبْلَ منها ما اتَّسَعْ
وهنا في هذا البيت الحادي والثلاثين يقول في مدح قومه والفخر بهم :
بُسُطُ الأَيْدِي إذَا ما سُئِلُوا
نُفُعُ النَّائِلِ إنْ شَيءٌ نَفَعْ
استعمل في الدلالة على مروءتهم وكرمهم نفس اللفظ الذي استعلمه من قبل وهو البسط . وبسط الأيدي بالمعروف مدها بالمعروف .
وصف قومه بأنهم كرام يبسطون اليد بالكرم حين يُسألون وعطاؤهم سمح يعطونه بنفس سخية ولذلك يكون نافعًا . إن شيء نفع فعطاؤهم من الأشياء النافعة حقًا وبعض عطاء الناس لا يقع لأنهم لم يبذلوه بسماحة النفس .
بُسُط جمع بسيط هو المسماح الكريم المتهلل ويجوز أن نجعلها جمعًا للباسط يده بالمعروف ولكن صيغة فُعُل بضمتين الغالب فيها أن تكون في الجمع لفعول وفعيل (9) .
ونُفُع بضمتين جمع نفوع أي عظيم النفع والفائدة مثل نفاع في المعنى والنائل هو العطاء .
(32) قومي من أناس أهل فضل وخير وخلق حسن ، ليس في طبعهم الإسراع إلى القول الفاحش ولا عدم الصبر عند المصيبة . قوله لا يُسرعون إلى الفحش ولا يعجلـون إليه عنى به أنهم لا يكون منهم فحش في القول أبدًا حتى يعجلوا به كعجلة غيرهم . ولم يرد نفي العجلة وحدها ولكن أراد نفي الفحش كله عنهم . والجزع هو كما قدمنا القول ، عدم الصبر عند المصيبة ، جَزِعَ يجزع جزعًا فهو جَزِعٌ وجزوع .قال تعالى : " إنَّ الإنسانَ خُلِقَ هلوعًا إذا مسَّهُ الشَّرُّ جزوعًا وإذا مسَّهُ الخيرُ منوعًا " صدق الله العظيم .
(33) وقومي أهل صدق وعدالة وجد يعرفون الحق حين يكون لهم أو عليهم، وعندما يجىء أمر كريه مُرّ فهم ليسوا ضعفاء ولكن يواجهونه بقوة.
عي وعيي بالأمر أي أعياه الأمر ولم يستطعه (10) . خَرِعَ يخَرع خرَعا أي ضعف والخرع الضعيف والخرع الضعف – وخرع الرجل في أمره إذا لان في أمره وتساقط من العجز والضعف .
(34) ثمَّ ذكر كرم قومه بالطعام في زمان الحاجة وأشد ما كان الناس يحتاجون إلى زمان الشتاء عندما تهب الرياح من الشمال – الشمال بكسر الشين الجهة والشمال بفتح الشين الريح التي تجيء من الشمال ويقال لها الشمأل بالهمز .
قومي يطعمون الطعام في زمن الحاجة وأشد ما كان الناس يحتاجون إلى الطعام زمان الشتاء عندما تهب الريح شمالا ويطعمونه كثيرا طيبا مطبوخا في قدور ضخام ضامنات للشبع ولا يضعون فيها شيئا قليلا . تقول العرب أجاع فلان قدره أي لم يجعل فيها لحما كثيرا .فقوله هنا " في قدور مشبعات لم تجع " أي مملوءة فيها اللحم الكثير .
(35) ويُنقل اللحم من القدور إلى جفان كبيرات كل جفنة كأنها جابية من اتساعها . الجفنة وعاء كبير يوضع فيها الطعام وقد تصنع من الخشب ومن النحاس ومن غير ذلك . والجابية هي حفرة الساقية التي فيها الماء.هذه الجفان مملوءة بلحم من لحم الإبل السمينات الأسنمة– الترع بالتحريك الامتلاء . أترع إناءك أي أملأه . الذرى : ذروة كل شيء أعلاه وذرى الإبل أسنمتها ولحم السنام من أطيب اللحم .
وقوله :" وجفان كالجوابي " أخذ من القرآن ، إذ ذكر الله سبحانه وتعالى الجن الذين كانوا يعملون لسيدنا سليمان فقال تعالى :
"يعملونَ لهُ ما يشآءُ مِن محاريبَ وتماثيلَ وجِفَانٍ كالجوابِ وقُدورٍ راسياتٍ " صدق الله العظيم " سورة سبأ الآية : 13 " .
(36) وقومي أوفياء لا يخاف من جاورهم أن يغدروا به أو أن يطمعوا في ما عنده فيحسدوه ويتعدوا عليه . الطبع بالتحريك العيب وسوء الطمع–قالوا والطبع صدأ ووسخ يركب القلب من شدة الطمع وفساد الخُلُق– قال الشاعر :
لا خيرَ في طمعٍ يُدنِي إلى طبع
وغُفَّةٌ من قِوَامِ العيشِ تكفينِي
الغُفة من العيش أي البلغة من العيش، القليل الذي يقيم به المرء قوت يومه . وهذا البيت يدل على أن الطبع شر من الطمع .
(37) وقومي كرماء مساميح أهل جود يجودون بالنفيس الذي يبخل به الناس ونفوسهم طيبة خالية من الطمع السييء . حسر نفسه عن كذا أي كفها ومنعها من كذا، المضارع يحسر بضم السين فهم يمنعون أنفسهم من الطمع السييء .
ضن بالشيء يضن به الفتح ويضن به بالكسر أي يبخل وضن بالشيء بالبناء للمجهول أي بخل به وهذا الشيء علق الشيء علق مضنَّة وعلق مضنة بفتح الضاد وكسرها أي نفيس مما يبخل به.
(38) وقومي حسنو الوجوه مشرقوها لم يعن أنهم بيض الألوان كالإفرنج فالعرب لم تكن تعرف في ألوان هذا اللون . وقومي أهل شجاعة وشرف وليسوا جبناء ولا يخافون إذا جاء زمان الفزع أي الخوف واستنجد بهم الناس ليحموا ويدافعوا . مراجيح أي ثابتون لا يخفون جزعًا . إذا جد الفزع إذ صار الاستنجاد من أجل الدفاع والحماية أمر جد وحزم . والفزع بمعنى النجدة وقت الخوف والتعاون بين الناس على ذلك مستعملة في لغتنا العامية . وأصل معنى الفزع الاستغاثة والإغاثة عند الخوف . ويدل أيضًا على الخوف . وأفزعت فلانًا أخفته . وفزع فلان إلى فلان أي استغاث به أو أغاثه ونصره . وكان أنصار الرسول صلي الله عليه وسلم ورضي تعالى عنهم يكثرون عند الفزع ويقلون عند الطمع وذلك لإخلاصهم وصدق إيمانهم .
(39)وُزُنُ الأحلام أي راجحوا العقول، تزيد أحلامهم أي عقولهم على غيرهم إذا وازنا بينهم وبين غيرهم ، وهم شجعان عند البأس أي في الحرب حين تشتد ، هو ذو عقل زين أي راجح ، وحلم فلان حلمًا فهو حليم أي راجح العقل له أناة وروية وتفكير في عواقب الأمور وهم وزن الأحلام ـ وزن جمع وزين .
صادقو البأس أي يصدقون القتال شجعانًا في الحروب . البأس الشدة والقتال والحرب . " إذا البأس نصع " أي اشتد ووضحت شدته ويروى :
رُجُحُ الأحْلاَمِ إنْ وُزِنُوا
صَادِقُو الْبَأس إذَا الْبَأسُ وقَعْ
أي عقولهم راجحة ، رجح جمع رجيح
وهم مراجيح مساميح ومراجيح لا مفرد بها في الاستعمال ، ومساميح مفردها مسماح وهو مستعمل .
(40) وقومي في شجاعتهم مثل الأسود التي تتقى أي تخاف وصولها. والعرة : الأذى أي يخاف الناس الأذى الذي تسببه هجمتها الشديدة . وهم حلماء ليسوا بخفيفين تطير أحلامهم مع كل ريح . هم أهل هدو وأناة . عبر عن هذا بقوله : ساكنو الريح أي ريح أحلامهم أي ريح عقولهم ساكنة لا تهيج كالإعصار ذي الغبار الذي يكدر الدنيا ثم يصير إلى لا شيء . ريحهم ساكنة وهم هادئون حين يخف غيرهم من الناس الذين يتطايرون كقطع السحاب المتفرقة التي تسوقها الريح لخفتها وخلوها من الفائدة إلى جهات مختلفة .
وذم سيدنا على بن أبي طالب – كرَّم الله وجهه- قومًا فقال إنهم يجتمعون ( كما يجتمع قزع الخريف ) يعني أنهم يجتمعون متفرقين ويتفرقون من
بعد.
(41)لمّا وصف قومه بالشجاعة وأنهم أسود تخاف صولتها قال فبهم تحدث النكاية في العدو والانتقام منه . وبهم يضم الشق إذا حدث شق وانصداع في أمور الناس . رأبت الشيء أرأبه أي أصلحته . والشِّعب الشيء المتفرق انشعب الإناء أي انشق . رأبت شعب الإناء أي أصلحته . والشِّعب أيضًا الشيء الملتئم ، فالكلمة من الأضداد ، ومن قولنا هم شعب واحد . انصدع الشعب أي انشق الشيء الملتئم ونكيت في العدو أنكي بكسر الكاف أي صنعت به الضرر والأذى . ونكأت القرحة أنكأها أي قشرتها نكأ . انصدع أي انشق . الصدع : الشق .
(42)وقومي مجدهم قديم ، وعادة الشرف فيهم قديمة ، وليس شرفهم بالشيء الجديد الذي ليس له أصل راسخ .
(43)وقومي يحتلون ثقال الأمور التي يكلفهم واجب المروءة إياها . لايعجزون عنها ويظلعون لثقلها كما يظلع البعير الذي يوضع فوقه أكثر مما يتحمل من الأحمال . والشِّف بكسر السين الزيادة . أي هم يطيقون كل ما يكلفونه ولايعجزون ولا يظلعون كما يظلع البعير ذو الشف أي الزيادة من الأحمال التي ثقلها يزيد على طاقته .
والأحمال التي يعينها هنا مثل إخراج المال للضيافة والمعاونة في دفع الديات من أجل الصلح بين القبائل .
(44)ولأن شرف قومنا معروف فإنهم لايؤاخون إلا من كان مثلهم في شرف الأصل وصلاح الأخلاق . قال الشاعر :
عن المرءِ لاتسأل وسَلْ عن قرينِه
فكلٌ قرينٍ بالمقارِن يقْتَدِي
فهم لايؤاخون من كان وضيع الأصل قليل الخير ولذلك فإخوانهم نظراؤهم الأخيار وسراة الأصل من الناس أي كرماء الأصول من الناس . أكفاء من كفء والكفء هو النظير (11) . وسراة جمع سري والسري هو السيد الشريف من الناس . قال الشاعر :
لايصلحُ الناسُ فَوْضَى لاسراةَ لهم
ولا سراةَ إذا جهَّالُهم سادُوا
أي إن قومي على طريق بين من المروءة والصلاح والمحافظة على الشرف ومن كان على هذا الوجه وعلى هذا الطريق كان من خلانهم . وقومي سراة الأصل يؤاخون سراة الأصل. بقية الناس أصناف متفرقون، شيع متفرقة كل طائفة يتشيعون ويتعصبون لأنفسهم وكلمتهم كتفرقةـ هذا معنى سويد : "والناس شيع "أخذه من قوله تعالى : " إنَّ الذين فَرقُوا دِينهُم وكانوا شِيَعًا لستَ منهُم في شيءٍ " أي أنت برئ من تفرقهم وضلال أمرهم. ( سورة الأنعام: 159) .
تعليق :
إلى هنا ينتهي القسم الذي ظنه المستشرق كارلوس ليال قصيدة قائمة بنفسها. والحق كما قدمنا أنه عبارة عن أربعة فصول من هذه القصيدة الأثنى عشر ، جعلها كلها تمهيدًا لما سيأخذ فيه من بعد من الفخر ببني يشكر ثم من الخصومة بينه وبين عدوه الذي ناضله وانتصر هو عليه.
وقد ذكرنا أن المعاني التي افتتح بها نسيبه من عطف المحبوبة ، وبسطها حبل المودة ، وحسن حديثها ، وجمال منظرها ، وسحر كلامها ، وكمال خلقها هي نفسها المعاني التي مدح بها
قبيلته الكبرى بني بكر .
وبعد مدحه القبيلة الكبرى يندفع اندفاعة جديدة يجيء أولاً فيها بشيء من النسيب يحرك به نفسه وسامعيـه، ثم يصف رحلته ليلحق بالمحبوب ثم يفتخر بقومه وقد جعل رحلته كما هي دالة على طلب اللحاق بالمحبوب هي أيضًا رمز ليصل إلى ذكرهم والافتخار بهم .
ومن بعد يأخذ في ذكر عدوه وما كان بينهما من الخصومة والمساجلة ثم كيف انتصر عليه بفصاحته وبيانه وثبات جنانه ( أي قلبه )
(45) أرَّقَ الْعَيْنَ خَيَالٌ لَمْ يَدِعْ
مِن سُلَيْمَى فَفُؤادِي مُنْتَزَعْ
في هذا البيت ما يسمى "بالتصريع(12). وهو أن يكون البيت في أثناء القصيدة فيه قافية في صدره وفي عجزه . والشعراء يفعلون هذا عندما يبدأون فصلاً جديداً في القصيدة أو يأخذون في بيان معنى جديد . مثلاً بدأ امرؤ القيس معلقته بقوله :
قِفَا نبكِ من ذِكرى حبيبٍ ومنزلِ
بسِقطِ اللّوى بينَ الدَّخول فحَوْمَلِ
هذا مطلع القصيدة وهو مقفـى فـي
الصدور والعجز وهذا تصريع وكثير من مطالع القصائد تكون مصرعه . ثم قال من بعد في صفة الليل والحديث
عنه :
ألا أيُّها اللّيلُ الطّويلُ ألا انْجَلِ
بصُبْحٍ وما الإصْباحُ مِنك بأمثلِ
فهذا البيت مقفى في صدره وفي عجزه وهذا التصريع . كذلك هنا في هذه القصيدة.وروي هذا البيت بكسر دال يدع أي يتدع ويقر ويمكث .ولا بأس أن تفتح الدال (13) وتقرأ :
أرَّقَ الْعَيْنَ خَيَالٌ لَمْ يَدَعْ
أي لم يدعني فأنام، وعندي أن الرواية بفتح الدال لعلها صحيحة لأن وزن " يدَعْ " مناسب لوزنه " منتزَعْ " ويستحسن في القوافي المقيدة أي ذات السكون أن تكون حركة الحرف الذي قبلها متشابهة . والأنباري الكبير الذي نحن معتمدون على شرحه وروايته لم ينص على منع " يدع " المفتوحة الدال ولكنه بين أن الرواية " تدع بكسر الدال " ولم يذكر أنه رواها هكذا عن شيخه .
وروي أن أبا عمرو قال لم يدع من الدعة والسكون أي لم يتَّدِع ولم يتقارّ حين جاءنا ـ أي مضى بسرعة ولم يمكث . وأبو عمر المذكور ههنا هو بندار الكرخي أحد شيوخ الأنباري الكبير . ومن تكرار الأنباري لشرح هذه الكلمة وسوقه الحجة على ذلك يلوح لنا بأن آخرين ربما كانوا يروون البيت بفتح الدال من" لم يدع " والله تعالى أعلم .
يقول سويد ، عائدًا إلى معنى الطيف والذكرى ليجدد نشاط نفسه إلى الاندفاع إلى البيان والتعبير :
إني أرقت . أرق عيني خيال زارني من الحبيب ولم يمكث طويلاً . ألمَّ بزيارته فهيج شوقي وأرق عيني . وهو طيف خيال زارني من سليمى. فكأنما انتزع فؤادي انتزاعا من شدة الشوق إليها .
تنبه أيها القارئ الكريم إلى أنه صغر اسم سلمى فجعله سليمى وهذا يناسب ما سيصير إليه من بعد من الحديث عن قبيلته الصغرى بني يشكر ثم عن نفسه . والتصغير يستعمل للتحبيب وللتلميح .
والعرب كثيرا ما تزعم في أشعارها
أن المحبوبة من قبيلة أخرى ، هذا أسلوب لهم وإن كانت من نفس القبيلة.
(46) يقول : هذه المحبوبة بعيدة الدار
من داري . حلت جانب الحصن وهو موضع بعينه . وقيل الرواية الصحيحة " حل قومي جانب الحضر " والحضر مدينة قديمة بالعراق وهي مدينة الموصل، وبنو يشكر كانوا بدواً وربما طلبوا المرعى فأبعدوا النجعة إليه. والفرع موضع بين الكوفة والبصرة فجعل محبوبته من القبائل التي تسكن هناك، ليعبر عن بعدها وشوقه إليها ، وصعوبة لقائها .
(47)قال ولبعدها هذا فأنا لا أستطيع لقاءها مع أني أحبها وقلبي مشغول بها وهو أسير عندها . إنما ألقاها إذا نامت عيني . يأتيني طيفها ويزول بسرعة. فلقائي لها إلمامة يسيرة بها في المنام حين يهجع الطرف .
(48)ثم وصف ما رآه من جمال بشرة طيفها في المنام . قال هي كالتُّؤامية أي بشرتها ناعمة صافية كالدرة التُّؤامية ، أي التي يجيء بها الغواصون من الخليج في الساحل الذي يقال له تؤام وهو ساحل عمان والبحرين حيث يغاص على اللؤلؤ .
هذه المرأة ناعمة البشرة إن ظفر المرء بها قرت عينه ، أي سرَّ سروراً عظيمًا وأعجبه مضجعه بقربها وسره اضطجاعه إلى جانبها.
(49)ولكن لاسبيل إلى ذلك لأنها قد بكرت أي هبت من أول الصبح مُزمِعة عازمة على نية السفر ، وقد حدا الحادي بالرحيل واندفعت جِمالها مبتعدة بها واندفع الحاي بالإبل في الصحراء .
(50)وتركني هائماً . وترك رجلاً كريماً ، هو أنا ، مكبلاً في حبها ، وقلبه ذاهب وراء الحي الذي ارتحل وارتحلت فيه محبوبته .
يقال : غلِق الرهن أي فاتت مدة خلاصه ولم يستطع صاحبه أن يرده والشعراء تزعم أن قلبها مرهون عند المحبوبة وقد غلق الرهن أي فاتت مدته وعسر فكاكه ، والقطين الأهل الساكنون معاً . أي قلبه قد اتبع هؤلاء الراحلين هؤلاء القطين الذين كانوا معهم في الحي قد ساروا واتبعهم فؤادهم فهو بحبه لهم أسير مكبل عندهم . هذا آخر الفصل الخامس .
تعليق :
لأن قلبه مرهون عند المحبوبة وأسير لقطينها الراحل ، فإن الشاعر لا يستطيع إلا أن القطين الراحل ، الحي الذي رحل بمحبوبته . وقد فعل ذلك . ولأنه هذه المرة مضطر إلى قطع مسافات رمال الصحراء البعيدة ، فقد ركب ناقة وأسرعت به وهي قوية قادرة على قطع المفازة العظيمة والشاعر يشبهه بالثور الوحشي ويصور شدة نشاطها ويزعم أن هذا الثور حفت به كلاب الصيد ، وحاول رميه صاحبها ولكنه نجا وانطلق فلا يجري شيء مثل جريه ـ ناقتي كهذا الثور بنشاطه ونجاته هو أيضاً رمز لنفسه ولدفاعه عنها وانتصاره على خصمه .
(51)ومن هنا يبدأ الفصل السادس وفيه وصف الرحلة على الناقة والثور الوحشي . يقول سويد : فكأني مندفعاً(14) فوق راحلتي وقد جرى السراب في الضحى عند بدء الحر في الاشتداد وارتفاع الشمس وسطوعها ، كأنني على ظهر ثور وحشي طويل الذيل (ذيال) وفي خديه خطوط حمر ضاربة إلى السواد . الأسفع هو الذي كأنه محروق بالنار خالط حمرته لون سواد .
السفع بالتحريك والسفعة السواد الضارب للحمرة. والثور الوحشي لونه أبيض إلا وجهه وقوائمه ، وجهه فيه سفع وكذلك قوائمه .
(52)كُفَّ خَدَّاهُ على دِيبَاجَةٍ
وَعلى المَتْنَينِ لَوْنٌ قد سَطَعْ
الديباج نوع من الثياب فاخر يضرب إلى السواد والحمرة . خدَّا هذا الثور كأنَّما كُفٌا أي ضُمَّ على ديباجة ، أي كأنهما قطعة من الديباج مضمومة، لحمرتهما الضاربة إلى السواد أو سوادهما الضارب إلى الحمرة، وعلى المتنين أي على جانبي الظهر لون قد سطع أي قد بدا باهراً ساطعًا بياضه في ضوء الشمس .
(53)يَبْسُطُ المَشْيَ إذَا هَيَجْتَهُ
مِثْلَ ما يَبْسُطُ في الخَطْوِ الذَّرَعْ
الذرع هو العجل الصغير وهو نشيط يبسط خطوه مرحاً ولعبًا لصغره ومرحه . يقول هذا الثور الوحشي يبسط المشي أي يسرع فيه ويشتد إذا هيجته ويكون في وثبه ونشاطه واتساع خطواته شبيهًا بالذَّرع وهو ولد البقرة الصغير . وهذا الوصف بحركة النشاط المرحة كما ينطبق على الثور الوحشي ينطبق على راحلته المشبهة بالثور الوحشي ، وينطبق على الشاعر نفسه لأن نشاط راحلته طـرف من نشاطه هو .
ولاشك قد تنبهت لاستعمال الشاعر للفظ " يبسط " وتكرار هذا اللفظ في القصيدة . جعله أول الأمر لرابعة المحبوبة . ثم لقومه بني بكر " بسط الأيدي " ثم الآن للثور الوحشي "يبسط المشي إذا هيجته " .
(54)هذا الثور الناشط فاجأه فراعه أي أخافه صائد من بني طييء ، وكانوا معروفين بجودة الرمي ، من أسهم يرمي بها ومعه ضراء أي كلاب ضارية متعودة على الصيد ، مدربة ، واحدها ضرو للذكر وضروة للأنثى وضريت الكلب تضرية دربته ليكون ضارياً بالصيد .
يقول هذا الصياد معه قوسه وأسهمه ومع ذلك كلابه الدوارب بالصيد ، الضارية المعودة عليه ، التي تبرهن بقوة جريها على مقدرتها الفائقة وتبلي أوتار الصائد أحسن البلاء أي تعطيه عن مقدرتها أجود دليل . تقول اختبرت فلانًا فأبلى بـلاءً حسنًـا أي فجاز الاختبار بتفوق.
الشرع بكسر الشين وفتح الراء جمع شرعة وهي الوتر في القوس ومنه يكون الرمي . وإذا أراد الصائد إغراء كلابه بالثور ، وشد الوتر ورمى فأرنَّ كان ذلك علامة يغري بها كلابه ، فهن ينطلقن وراء الثور مع انطلاق السهم ويبلين بجريهن أحسن البلاء ، ويبرهن للأوتار التي ترسل السهام أنهن سريعات كالسهام، أنهن أيضًا هن سهام يبارين السهام نفسها في السرعة وفي صدقهن الاندفاع إلى الصيد .
تقول بلوته أي اختبرته فأبلى أحسن بلاء . وبلا الصائد كلابه يبلوهن أي اختبرهن فأبلين أحسن البلاء . وبلت الشرع الكلاب أي اختبرتها حين أُرسلت مرمية عنها السهام فأبلتها الكلاب وكن يبلينها بسرعة جريهن أي يعطينها نتائج نجاح باهر من السرعة.
وهذه مبالغة لأن الكلب لا تبلغ سرعته سرعة السهم ، ومن قبل قد جعل سويد خيله كالسهام التي يغلي بها في الرمي فقال في البيت (26)
كالْمَغَالِي عارِفَاتٍ لِلسُّرَي
مُسْنَفَاتٍ لَمْ تُوَشَّمْ بالنِسَعْ
(55)فرأى الثور الكلاب ولم يستبنهنّ إما بسبب الغبار الذي أثاره جريهن وإما لبعض الضعف في بصره إذ جنس الظباء موصوف ببعض الضعف في بصره .
و" كلاب الصيد فيهن جشع " أى حرص وإفراط في شهوة ما سيكون لهن طعامًا لأن الصائد سيعطيهن لحم الثور متى الصيد عليه .
(56)لما تبينهن الثور وأيقن أنهن يردن صيده ولى هاربًا وحوله جنابان من غبار أكدري اللون أي فيه كدره الغبار ثم بعد اندفاعه الجري الأولى اتدع أي سكن وهدأ شيئًا ولـم يجتهد